سورة آل عمران - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
{قُلِ اللهم مالك الملك} تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته؛ وفيه أيضًا إفحام لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه لاسيما المنافقين الذين هم أسوأ حالًا من اليهود والنصارى، وبشارة له صلى الله عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله، وبهذا تنتظم هذه الآية الكريمة بما قبلها. روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدًا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعًا قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا: يا سلمان إرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم وكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي فقال: سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئًا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروح كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلام وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون: ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وأنزل هذه الآية {قُلِ اللهم} الخ، وأصل {اللهم} يا ألله فحذفت يا وعوض عنها الميم وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة، وشددت لكونها عوضًا عن حرفين وجمعها مع يا كما في قوله:
إني إذا ما حدث ألمّا *** أقول يا اللهم يا اللهما
شاذ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو لله لا يؤخر الأجل ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضًا، وميم في م الله ووقوع همزة الاستفهام خلفًا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في نحو لاها الله ذا وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب، وزعم الكوفيون أن أصله يا الله آمنا بخير أي أقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته، ويجوز الجمع عندهم بين يا والميم بلا بأس ولا يخفى ما فيه ويقتضي أن لا يلي هذه الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الأبدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف وأل في الملك للجنس أو الاستغراق، و{الملك} بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق نسبة بين من قام به ومن تعلق، وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقًا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار فمالك الملك هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادًا وإعدامًا إحياءًا وإماتة وتعذيبًا وإثابة من غير مشارك ولا ممانع، ولهذا لا يقال: ملك الملك إلا على ضرب من التجوز، وحمل {الملك} على هذا المعنى أوفق قام المدح، وقيل: المراد منه النبوة وإليه ذهب مجاهد وقيل: المال والعبيد، وقيل: الدنيا والآخرة، وانتصاب {مالك} على الوصفية عند المبرد والزجاج، وسيبويه يوجب كونه نداءًا ثانيًا، ولا يجوز أن يكون صفة لأللهم لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات وهي لا توصف، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم صوت يوصف، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه، ومن هنا قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا نزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف والعلامة التفتازاني على هذا وأيد أيضًا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده.
{تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء} جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية الملك وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف، وصحح الجواز لأنه مفعول به، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل، وجعل الجملة خبرًا لمبتدأ محذوف أي أنت تؤتى وأن اختاره أبو البقاء ليس فيه كثير نفع {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} عطف على {تُؤْتِى} وحكمه حكمه، ومفعول {تَشَاء} في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه وممن تشاء نزعه منه، و{الملك} الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتى لا يمكن أن يكون الجميع والمنزوع هو ذاك لأنه معرفة معادة، ويراد بها إن لم يمنع مانع عين الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول. ومن الناس من حمل {الملك} هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتى النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب، وقيل: المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون، وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: تنزعه من صناديد قريش.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} أن تعزه في الدنيا والآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير، وقيل: المراد تعز محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين وتذل أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب، وقال عطاء: تعز المهاجرين والأنصار وتذل فارس والورم، وقيل: تعز المؤمنين بالظفر والغنيمة وتذل اليهود بالقتل والجزية، وقيل: تعز بالإخلاص وتذل بالرياء، وقيل: تعز الأحباب بالجنة والرؤية وتذل الأعداء بالنار والحجاب؛ وقيل: تعز بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع وقيل وقيل. وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، و{تعز} مضارع أعز ضد أذل، والمجرد من الهمزة منه عز ومضارعه يعز بكسر العين، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية، وله استعمالان آخران الضم والفتح، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله:
يا قارئًا كتب الآداب كن يقظا *** وحرر الفرق في الأفعال تحريرًا
عز المضاعف يأتي في مضارعه *** تثليث عين بفرق جاء مشهورا
فما كقل وضد الذل مع عظم *** كذا كرمت علينا جاء مكسورًا
وما كعز علينا الحال أي صعبت *** فافتح مضارعه إن كنت نحريرا
وهذه الخمسة الأفعال لازمة *** واضمم مضارع فعل ليس مقصورًا
عززت زيدًا بمعنى قد غلبت كذا *** أعنته فكلا ذا جاء مأثورًا
وقيل إذا كنت في ذكر القنوت ولا *** يعز يا رب من عاديت مكسورا
واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا *** لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرًا
{تَشَاء بِيَدِكَ الخير} جملة مستأنفة، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي: بيدك التي لا يكتنه كنهما، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك، وإنما خص الخير بالذكر تعليمًا لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق وتحقيقه {إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء، وقيل: إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات، وقيل: لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام. الأول: ما لا شر فيه أصلًا. والثاني: ما يغلب خيره على شره. والثالث: ما يكون شرًا محضًا. والرابع: ما يكون شره غالبًا على خيره. والخامس: ما يتساوى الخير والشر فيه، والموجود من هذه الأقسام في العالم القسم الأول والثاني والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعًا؛ والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة بحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرًا لا شرًا وصحة لا مرضًا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرًا من هذا القبيل، ولهذا ورد في الحديث: «لا تتهم الله تعالى على نفسك» وورد «لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين» وجاء «لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب» ومن هنا قيل: يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا: جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح وذبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه: {بِيَدِكَ الخير} فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلًا ولما وقع استلزامًا، وهذا من باب ليس في الإمكان أبدع مما كان وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ ن وجه سهام الطعن إليه، وفي «شرح الهياكل» أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرًا كثيرًا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح، ولا ينافيه {لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] إذ لا يفعل ما يسئل عنه كرمًا وحكمة وجودًا ومنة «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع».


{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
{تُولِجُ اليل فِى النهار وَتُولِجُ النهار فِى اليل} الولوج في الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد ولا يضر تساوي الليل والنهار دائمًا عند خط الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب، وقال الجبائي: المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ، وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران أن عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول، ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء. وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الإلهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى البطين وهكذا إلى آخر المنازل، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلثمائة وستين يومًا فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني، وفيه اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني أغذيتها وزيادتها ونموها وصحتها وسقمها وحياتها وموتها فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الإلهية، وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول: قال الله تعالى في المشهود من الأيام المحسوسة: {يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيَكُونَ *النهار وَيُكَوّرُ النهار} [الزمر: 5] وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [ياس: 37] فهذه أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبًا فيه ثم سلخ، وليس معنى السلخ معنى التكوير فلابد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه ويرد كل فرع إلى أصله، ويلحق كل ابن بأبيه، وقال في الآية الكريمة كاشفًا عن حقيقة أخرى: {يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل} فجعل بين الليل والنهار نكاحًا معنويًا لما كانت الأشياء تتولد منهما معًا وأكد هذا المعنى بقوله عز قائلًا: {يغشى وَهُوَ الذى} [الأعراف: 54] ولهذا كان كل منهما مولجًا ومولجًا فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذًا حكم الايلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في وقت أن يرجع النهار من كونه مولجًا ومولجًا فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من أجل الظاهر والباطن والغيب والشهادة. والروح والجسم والحرف والمعنى وشبه ذلك فالايلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم الروح، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج النهار، وجاء السلخ واحدًا للظاهر لأربابه، وقد اختلف العجم والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر، فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا، والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمري {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة: 22] فليلة الجمعة عندهم مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لأن عوامهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ وأيام الإيلاج الشاني، ولما كانت الأيام شيئًا وكل شيء عندهم ظاهر وباطن وغيب وشهادة وروح وجسم وملك. وملكوت ولطيف وكثيف قالوا: إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر، والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه، والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الآلهية، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال فصل الخطاب، فعلى المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أي ليلة الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة، ومن ليلة الأربعاء نهار السبت، ومن ليلة الخميس نهار الأحد، ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات فكانت ستة وهي نشأتك ذاك الجهات، فالليالي منها للتحت والشمال والخلف، والنهارات منها للفوق واليمين والامام فلا يكون الإنسان نهارًا ونورًا تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله، وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر الحكمة الإلهية على يد الموكلين بالساعات، وفي اليوم الإيلاجي الشاني يعتبرون ليلًا ونهارًا أيضًا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في الموجودات بحسب استعداداتها ولهذا قال سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ولم يقل في شؤون وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله أميرًا في ذلك، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا هو من حيث هو، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في أيام السلخ إلا قليلًا فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل: {يُولِجُ اليل} الذي صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات، والحكم المولى من قبل المولى فليلة الأحد الايلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس، والثانية منها، والثالثة من يوم الخميس، والعاشرة منها، والخامسة من ليلة الجمعة، والثانية عشرة منها، والسابعة من يوم الجمعة، والثامنة من ليلة السبت، والتاسعة منها، والرابعة من يوم السبت، والحادية عشرة منه، والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله. وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد، والثامنة والثالثة من يوم الاثنين والعاشرة منه، والخامسة من يوم الاثنين والثانية عشرة منه والسابعة من ليلة الثلاثة والثانية من يوم الثلاثاء والتاسعة منه، والرابعة من ليلة الأربعاء والحادية عشرة منها والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في الأيام، ويظهر ذلك من أيام التكوير. وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره الشأن في كل يوم في رسالته «المسماة بالشأن الإلهي»، ولعلِّي إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وهذه الأيام أيضًا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا ويوم الرب ويوم المعارج ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل ويوح الحمل ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم وقد ذكر كل ذلك في الفتوحات وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان الاستقصاء في بيان مشرب القوم ليس بدعًا في هذا الكتاب تعليمًا لبعض طلبة العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لجهلهم بسبب بحث جرى بنا الظنون، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد فحمدًا لك اللهم على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت.
{وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة، وعليه ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومجاهد والسدى وخلق كثير {وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي النطفة من الحيوانات كما قال عامة السلف. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل ردىء فقال هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر» فذلك قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} الآية وإلى هذا ذهب الحسن وروي عن أئمة أهل البيت، فالحي والميت مجازيان، ولطف هذه الجملة بعد الأولى لا يخفى، والقائلون بعموم المجاز قالوا: المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من الحيوانات، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، والعالم من الجاهل والجاهل من العالم، والذكي من البليد والبليد من الذكي إلى غير ذلك. ولا يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم التسلسل في جانب المبدىء إذ غاية ما تفهمه الآية أن لله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئًا إلا من شيء فلا كما لا يخفى، وقرئ {الميت} بالتخفيف في الموضعين.
{وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} الظرف في محل الحال من المفعول أي ترزق من تشاء غير محاسب له، أو من الفاعل أي ترزقه غير محاسب له، أو غير مضيق عليه، وجوز أن يكون نعتًا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف أي رزقًا غير قليل، وفي ذكر هذه الأفعال العظيمة التي تحير العقول ونسبتها إليه تعالى دلالة على أن من يقدر على ذلك لا يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل هو أهون عليه من كل هين. هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية، وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال: «شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دينًا كان عليّ فقال: يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت: نعم قال: {قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ} [آل عمران: 26] رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقضِ عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبًا أدى عنك» وفي رواية للطبراني الآية بتمامها.
ومن باب الإشارة في الآيات: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} أي أبان بدلائل الآفاق والأنفس أنه لا إله في الوجود سواه، أو شهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره، وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك وهي شهادة مظاهره سبحانه في مقام التفصيل، ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة من حيث اليقين وشهادة أولي العلم من حيث المشاهدة، وأيضًا قالوا: شهادة الملائكة من رؤية الأفعال وشهادة أولي العلم من رؤية الصفات، وقيل: شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب عليهم الخوف، وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم الرجاء. وشهادة العلماء متفاوتة فشهادتهم بعض من الحالات، وشهادة آخرين من المقامات، وشهادة طائفة من المكاشفات، وشهادة فرقة من المشاهدات؛ وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية، فشادتهم مستغرقة في شهادة الحق لأنهم في محل المحو {قَائِمًَا بالقسط} أي مقيمًا للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد فيتجلى عليه على قدر دعائه {لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز} فلا يصل أحد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته {الحكيم} [آل عمران: 18] الذي يدبر كل شيء فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق {إِنَّ الدّينَ} المرضي {عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] وهو المقام الإبراهيمي المشار إليه بقوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} [آل عمران: 20] أي نفسي وجملتي وانخلعت عن آنيتي لله تعالى ففنيت فيه {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} وهم المحجوبون عن الدين والساترون للحق بالميل مع الشهوات {وَيَقْتُلُونَ النبيين} الداعين إلى التوحيد وهم العباد والواصلون الكاملون {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط} وهو نفي الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى: {مِنَ الناس}، ويحتمل أن يشار بالذين كفروا إلى قوى النفس الأمارة وبالنبيين إلى أنبياء القلوب المشرفة بوحي إلهام الغيوب، وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التي هي من جنود أولئك الأنبياء وأتباعهم، فبشر أولئك الكافرين {بعذاب أليم} [آل عمران: 21] وهو عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الأرباب {أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ} أي بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار {أعمالهم} لعدم شرطها وهو التوحيد {فِى الدنيا} وهي عالم الشهادة {والاخرة} وهي عالم الغيب {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} [آل عمران: 22] لسوء حظهم وقلة استعدادهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} كعلماء السوء وأحبار الضلال {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الناطق قام الجمع والفرق {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وبين الموحدين {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} نار البعد {إِلا أَيَّامًا معدودات} أي قليلة يسيرة {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم} الذي هم عليه {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] من القضايا والأقيسة التي جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال {فَكَيْفَ} يكون حالهم {إِذَا جمعناهم} بعد تفرقهم في صحراء الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم {لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وهو يوم القيامة الكبرى الذي يظهر فيه الحق لمنكره، {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} صالحة وطالحة {مَّا كَسَبَتْ} بواسطة استعدادها {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 25] جزاء ذلك {قُلِ اللهم مالك الملك} أي الملك المتصرف في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسا تقتضيه الحكمة {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء} وهو من اخترته للرياسة الباطنة وجعلته متصرفًا بإرادتك وقدرتك {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام وتكميل النشأة، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك {مَن تَشَاء} بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعًا {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلًا {بِيَدِكَ الخير} [آل عمران: 26] كله وأنت القادر مطلقًا تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك {تُولِجُ اليل فِى النهار} تدخل ظلمة النفس في نور القلب فيظلم {وَتُولِجُ النهار فِى اليل} وتدخل نور القلب في ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معًا مع بعد المناسبة بينهما {وَتُخْرِجُ} حي القلب من ميت النفس وميت النفس من حي القلب، أو تخرج حي العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حي العلم {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء} من النعم الظاهرة والباطنة، أو من إحداهما فقط {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] إذ لا حجر عليك.
هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك والإعزاز من الله تعالى وأنه على كل شيء قدير نبه المؤمنين على أنه لا ينبغى أن يوالوا أعداء الله تعالى لقرابة أو صداقة جاهلية أو نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلًا:


{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}
{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء} قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو. وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد والكل من اليهود يباطنون نفرًا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية، وقال الكلبي: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريًا نقيبًا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ} الخ، والفعل مجزوم بلا النهاية، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضًا وهو متعد لمفعولين، وجوز أن يكون متعديًا لواحد فأولياء مفعول ثان، أو حال وهو جمع ولي عنى الموالي من الولي وهو القرب، والمراد لا يراعوا أمورًا كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا وعليه الجمهور أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين شرك» فمنسوخ بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدًا وخدمًا ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالًا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة المنهى عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس، وفي «فتاوى العلامة ابن حجر» جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى: {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8] ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيمًا وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئًا في قلوب ضعفاء المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفي.
{مِن دُونِ المؤمنين} حال من الفاعل أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالًا أو اشتراكًا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره للاشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع، وكونه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء.
وقيل: الظرف في حيز الصفة لأولياء، وقيل: متعلق بفعل الاتخاذ، و{مِنْ} لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي الاتخاذ، والتعبير عنه بالفعل كما قال شيخ الإسلام للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره، و{مِنْ} شرطية، و{يَفْعَلُ} فعل الشرط، وجوابه. {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء} والكلام على حذف مضاف أي من ولايته، أو من دينه، والظرف الأول حال من {شَىْء} والثاني خبر ليس وتنوين {شي} للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع ولهذا قيل:
تودّ عدوي ثم تزعم أنني *** صديقك ليس النوك عنك بعازب
وقيل أيضًا:
إذا والى صديقك من تعادي *** فقد عاداك وانقطع الكلام
والجملة معترضة، وقوله تعالى: {شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ} على صيغة الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فيه فعل النهي معتبرًا فيه الخطاب أي لا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم، وقيل: استثناء مفرغ من المفعول لأجله أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليًا لشيء من الأشياء إلا للتقية {مِنْهُمْ} أي من جهتهم؛ ومن للابتداء متعلق حذوف وقع حالًا من قوله تعالى: {تقاة} لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها، والمراد بالتقاة ما يتقى منه وتكون عنى اتقاء وهو الشائع فعلى الأول: يكون مفعولًا به لتتقوا، وعلى الثاني: مفعولًا مطلقًا له، و{مِنْهُمْ} متعلق به، وتعدى ن لأنه عنى خاف، وخاف يتعدى بها نحو: {وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} [البقرة: 182] والمجرور في موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعلم به أي ضررًا ونحوه، وأصل تقاة وقية بواو مضمومة وياء متحركة بعد القاف المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاءًا كتجاه وأبدلت الياء المتحركة ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعلة كتخمة، وتؤدة وهو في المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء كاقتداء وقرأ أبو الرجاء وقتادة تقية بالياء المشددة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو أيضًا.
وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها حافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول: فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلًا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفًا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبًا سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضًا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد قطعًا، ومما يدل على أنها رخصة ما روي عن الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال له: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصمّ قالها ثلاثًا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئًا له.
وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه وأما القسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضًا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لإصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضًا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة.
وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكفّ إذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع. فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله تعالى أمرني داراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض} وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي «الجامع» «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة». وأخرج ابن عدي وابن عساكر «من عاش مداريًا مات شهيدًا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن الشعيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه» وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحرمي بزيادة «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس وهم الخوارج والشيعة. أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلًا ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة منها أن أحدًا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كي لا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط كان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة ورا وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين؛ وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانًا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضًا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت «من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي»، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضًا، وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضًا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز بل وجوب إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط كان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلًا أصيلًا عندهم وأسسوا عليه دينهم وهو الشائع الآن فيما بينهم حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام؛ وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.
ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضًا فضلها الذي زعموه ففي كتاب «نهج البلاغة» الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال: علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] بأكثركم تقية؟ا وفيه أيضًا أنه كرم الله تعالى وجهه قال: إني والله لو لقيتهم واحدًا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج. وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين، وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال: توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال: ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال: أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر: أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق.
وروى الراوندي شارح «نهج البلاغة» ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسي أن عليًا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ قوس فقال: يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي فقال: أربع على صلعتك فقال عليّ إنك هاهنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرًا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر: اللَّهَ اللَّهَ يا أبا الحسن لأعدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان: فلما كان الليل دعاني عليّ فقال: سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك قال سلمان: فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا سلمان أقبل عني ما أقول لك ما عليّ إلا ساحر وإني لمستيقن بك والصواب أن تفارقه وتصير من جملتنا قلت: ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا، قال: ارجع إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى عليّ فقال: أحدثك عما جرى بينكما فقلت: أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت، وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضًا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفًا منه وتقية.
وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابًا فقال جبريل: يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال: ومن النجباء يا جبريل؟ فقال: عليّ بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وأمره أن يفك خاتمًا منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتمًا فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتمًا فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين ففك خاتمًا فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتمًا فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدًا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتمًا فوجد فيه حدث الناس وافتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل، ثم دفعه إلى موسى وهكذا إلى المهدي. ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضًا عن أبي عبد الله، وفي الخاتم الخامس وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى وهذه الرواية أيضًا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة، وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومال الناس إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدًا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة: الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد، وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه.
وفي «كتاب أبان بن عياش» أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى علي قنفذًا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وفيه أيضًا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فصاحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته، وفيه أيضًا أن عمر قال لعلي: بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إن لم أفعل ذلك؟ قال: إذًا والله تعالى لأضربن عنقك قال: كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألأم وأضعف من ذلك، فهذه الروايات تدل صريحًا أن التقية راحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية، وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر: يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلًا بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جورًا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك.
وروي أيضًا أنه قال لعمر مرة: إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكًا وصلبًا تخرجان من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادًا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليم نسفًا فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى، هذا العجب العجاب والداء العضال، ومما يرد قولهم أيضًا: إن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان: الأول: الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما: أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في الكافي، وعقد لها بابًا وأجمع عليها سائر الإمامية، وثانيهما: أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين، القسم الثاني: خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائمًا في امتثال أوامر الله تعالى ورا قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله عليه وسلم. وأيضًا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم: {الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله وكفى بالله حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَعْمَلُونَ ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] إلى غير ذلك من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة، والثاني: حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذي ذكرناه.
ومن الناس من أوجب نوعًا من التقية خاصًا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض.
وحنانيك بعض الشر أهون من بعض ***
وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم وقد يقال: ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا، ويؤيد هذا ما ذكره الشعراني قدس سره في «الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم المشهورة» مما نصه، وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام حتى قال بعضهم لشيخه. إن كلام أخي فلان يدق على فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى. فعلى هذا، الإنكار على القوم ليس في محله.
{وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أي عقاب نفسه قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح حيث علق التحذير بنفسه، وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح، وقيل: النفس عنى الذات وجواز إطلاقه حينئذٍ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة {وإلى الله المصير} أي المرجع، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة. قيل: والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتمًا.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12